قبل اليوم كانت تزعجني بعض المشاهد في المسلسلات التي تسلط الضوء على تعامل موظفي بعض الدوائر مع المراجعين، كنت أعتبرها مفرطة في المبالغة وفي تصوير واقع بطريقة مضخمة .
ذهبت لأساعد قريب لي يعمل كموظف حكومي في إتمام معاملة تتعلق بإجازة صحية وكان المنطلق إحدى الدوائر في منطقة المزرعة بدمشق (حي في شمالي المدينة)، أشارت موظفة هناك إلى ضرورة ذهابنا إلى لجنة طبية في باب مصلى لتصديق أوراقه ومعاينة آثار العملية الجراحية التي اجراها على أرض الواقع .
في باب مصلى (منطقة تقع وسط وجنوب دمشق) استقبلتنا موظفة اللجنة بعبارة سريعة وباردة :
– “عمليتك في داريا يجب عليك الذهاب إلى مديرية صحة ريف دمشق في ساحة الشهبندر ومن ثم تصديقها في الطلياني” (وهما حيان يقعان في شمالي المدينة) وبعد بعض الصراخ والمشادة التي كادت تعيد انتكاسة قريبي خرجنا من مقر اللجنة لتتلقفنا موظفة:
“هيه أنت ، هل ترى ذاك الشاب هناك ، اتبعه سيكتب لك تقريراً طبياً أي كلام ويمكنك بموجبه أخذ الإجازة التي تريد”
قفز الشاب من مكانه في غرفة الانتظار واقترب منا، فاعتذرت منه رافضاً ، ماذا لو اكتشفت اللجنة الأمر ، ثم نحن أصحاب حق في الإجازة وأوراقنا نظامية لا داعي للدخول في دوامة التزوير.
اقتنع قريبي وذهبنا فعلاً إلى مديرية الصحة ، واستقبلنا هناك موظف بشوش الوجه بشكل أثار استغرابنا:
“التقرير مكتوب على ورقة من عند الطبيب، مابيمشي حاله، يجب أن يكون مكتوباً على ورقة نقابة الأطباء”
وبعد الأخذ والرد، نصحنا بطريقة وهي شراء ورقة تقرير نقابية فارغة وخرزها مع تقرير الطبيب ، ثم ختمها ولصق الطوابع ، وكالعادة هناك مكتبة بجانب المديرية يعرف صاحبها تماماً ما تريد من شكل وجهك والأوراق التي بيدك .
بالعودة للمديرية ، قرأ موظف آخر البيانات :
– “أين أجريت العملية؟”
– “في داريا”
– “لا يوجد في التقرير ما يشير لهذا”
– “بلى أنظر هنا” وأشرت له إلى سطر يتوسط التقرير
– “مابيمشي الحال، لازم يكون هذا الشي مذكور بختم الطبيب أو المشفى”
– “الله يرضى عليك مشيها”
وفعلاً لم يفشلنا الموظف وختم ووقع ماعليه فعله.
الآن أين لجنة الفحص في الطلياني؟ أخبرونا أنها بجانب المشفى ، ذهبنا هناك ، ووجدنا لوحة معدنية على شكل شهم تشير لزقاق ضيق في حي الطلياني ، فتشناه زاوية بعد أخرى دون جدوى حتى صدفنا سيدة تحاول إرضاء طفل يبكي في الطريق، سألناها عن المكان فأشارت لزقاق يبعد عن مكاننا شارعين .
“هناك لوحة معدنية تشير لهذا الشارع” سأل صديقي
“أي هي غلط ، لفحها الهوى فمالت مشيرة لهذا المكان ”
ذهبنا ووجدنا اللجنة في الزقاق المذكور وبعد دقائق انتهينا من كل الأوراق المطلوبة وخرجنا من مقر اللجنة في ذاك الحي والواقع في قبو أحد الأبنية (كان يشبه المدافن الأثرية بظلامه ووقوعه تحت الأرض ورائحة الرطوبة فيه)
هنا تنفسنا الصعداء وعدنا إلى المكان الذي انطلقت منه رحلتنا ودخلنا للمكتب الذي أشار لنا خطأً إلى باب مصلى .
كان قريبي يشتعل غيظاً ويريد الشجار مع موظفي المكان هناك ، لكنني طلبت منه أن يهدئ روعه
“نحن بحاجتهم، لا تخليهم يغضبوا علينا” دخلنا المكتب لتستقبلنا الموظفة التي ضللتنا في بداية رحلتنا المكوكية، وبعد أخذ ورد طويل فشلنا فيه بإقناعها بالخطأ الذي ارتكبته أخذت الأوراق منا ونظرت إليها من جديد
“هذه العملية أجريت في داريا”
“طيب ، وماذا في هذا”
“ينقصكم إذن سفر ”
تجمدنا دهشة في مكاننا ، أي إذن سفر ؟ داريا تبعد دقيقتين بالسيارة إن كنت في كفرسوسة أو المزة ؟
“عزيزتي، داريا التي في دمشق ، لم أجر العملية في لندن”
“اللوائح لوائح، أنظر، المناطق التالية لا تحتاج إذن سفر ” وأطلعتنا على كتاب إداري تسمرت عيناي فيه على صحنايا ودوما ، الأولى تبعد 15 كيلو متر عن دمشق والثانية أكثر بقليل ، من وضع هذه اللائحة؟ وهل اجتاز امتحان جغرافيا الصف السادس في مدرسته عندما كان طالباً بنجاح؟ هل يحتاج الأمر أصلاً إلى دراية بالجغرافيا، هل يعرف واضع القرار كيف يسير في دمشق؟ أم أنه يضيع في شوراعها؟
تدراكت الأمر بسرعة
“طيب ، عيادة الطبيب الذي أجرى العملية في صحنايا ، ارجو أن تتمي الأوراق على هذا الأساس”
نفخت الموظفة زفرة غضب كادت تطيرنا وأتمت المعاملة ، أخذت منا رزمة التقارير والأوراق وأعطتنا ورقة صغيرة بحجم كف اليد فيها بيان الإجازة.
عند خروجنا من المبنى انتابنا شعور الخارج من المعركة منتصراً رغم حجم الخسائر.
“هيا بنا إلى صحنايا”
“انتظر بركي بدنا فيزا لهنيك ؟”